بعد الانهيار الاضافي في سعر صرف الليرة، وبعدما اضطر مصرف لبنان الى اعادة التدخل في السوق من خلال ضخّ المزيد من الدولارات من الاحتياطي المتبقي لديه، عبر منصة “صيرفة”، عاد الى الواجهة طرحٌ قديم يقضي بالدولرة الشاملة في البلد. وبينما كان البعض يعترض على هذا الطرح بسبب ما اعتبره انعكاسات سلبية على القدرات الشرائية للمواطنين، استفاد داعمو النظرية من عملية دولرة اسعار السلع في السوبرماركت، للعودة بقوة الى طرح الدولرة، على اعتبار ان ما كان يخشاه المعارضون حصل، وبالتالي، لم يتبق سوى دولرة الرواتب لكي تصبح الدولرة شاملة في البلد. فهل سيلقى هذا الطرح القبول، وهل يمكن الانتقال الى الدولرة والاستغناء عن الليرة؟
في البداية، لا بد من الاشارة الى الفارق الشاسع بين الدولرة الشاملة ودولرة اسعار السلع. خصوصا ان السماح بعرض الاسعار في السوبرماركت بالدولار، يقابله رفض لفكرة اجبار المواطن على الدفع بالدولار، وبالتالي، لا يزال في مقدور الزبون الدفع بالليرة، حتى لو كان السعر المعروض هو بالدولار. وهذا الاجراء، كما قال عنه المسؤولون الذين وافقوا عليه بعد طول تردّد، انما يهدف الى تسهيل الامور على المواطن ليس الا. اذ ان تقلبات سعر صرف الليرة، جعل من اسعار السلع مادة للتغيير اليومي. في حين ان التسعير بالدولار، يثبّت الاسعار مبدئياً، ويسهّل الامور على التاجر والزبون في آن. على الاقل هذا ما اعتقده أو روّج له من دعم هذا الاقتراح.
لكن الدولرة الشاملة تعني الاستغناء عن الليرة، واستبدالها بالدولار. والى جانب الموضوع السيادي الذي يتسلّح به البعض اعتراضاً على هذا الاقتراح، فان الجانب التقني والاقتصادي والمالي يحول دون اجراء مثل هذه الخطوة. ولا يمكن التحكّم بكمية الدولارات التي قد تدخل البلد وتتوفّر في الاسواق لاستخدامها في تسيير شؤون الدولة ومرافقها. في حين ان السلطات اللبنانية تتحكّم بالليرة، وتستطيع ان تطبع العملة عندما تشعر بالجاجة الى ذلك. صحيح ان عملية الطباعة تؤدي عمليا الى انهيار اضافي في سعر صرف العملة الوطنية، لكن الصحيح ايضا، ان الدولة لا تستطيع ان تربط مصيرها بعملة قد لا تتوفر لديها، بما سيجعلها عاجزة عن أي انجاز. ولا شك في ان بلوغ حجم الكتلة النقدية بالتدوال حوالي 80 تريليون ليرة، هو دليل لا يقبل الشك، في ان الحاجة قد تضطر السلطات الى خلق (طباعة) العملة عندما تحتاجها، والاستغناء عن هذه القدرة هو بمثابة انتحار، خصوصا لبلد مثل لبنان.
بالاضافة الى ذلك، سيكون مستهجناً تقديم موازنات الدولة بعملة دولة اخرى. وهذه الخطوة تحتاج الى اجراءات خاصة ليس سهلا توفيرها. بالاضافة طبعا الى ان اجراء من هذا النوع سيعطي الانطباع الاضافي للداخل والخارج، بأن البلد اصبح في مرحلة انحلال حقيقية، على اعتبار ان قلة من الدول المتخلفة اعتمدت طريقة الغاء عملتها والاستعانة بعملة دولة اخرى، ومنها زيمبابوي التي عجزت عن خلق عملة وطنية متماسكة يمكن اعتمادها في الدولة، وبعد سلسلة من المحاولات الفاشلة انتهى الامر بالسلطات الزيمبابوية الى الغاء عملتها بالكامل. فهل اصبح لبنان في مرحلة يستوحي فيها نموذج زيمبابوي في رسم سياسته النقدية؟!
الاجراءات المؤقتة التي يمكن اتخاذها في انتظار الانتقال الى الحل الجذري من خلال الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وبدء تنفيذ خطة للتعافي الاقتصادي والمالي، تقضي بتحسين ايرادات الدولة من خلال توسيع مروحة الضرائب، والاسراع في فرض الضريبة على الثروات، لأن زيادة ايرادات الخزينة يساهم في تخفيف الضغط على الليرة، ويؤدي الى كسر جزئي للحلقة المفرغة التي تدخل فيها الدول التي تعاني اوضاعاً مالية واقتصادية شبيهة بالوضع اللبناني.
في النتيجة، وفي حال طال الوقت قبل الانتقال الى مرحلة التعافي، لا بد من اعتماد الاجراء الكلاسيكي الذي تعتمده هذه البلدان، والتي تقضي بشطب الاصفار من العملة الوطنية، لهدفين:
اولا- خفض الاعتماد على طباعة فئات جديدة من العملات، لأن الطباعة بالنسبة الى بلد فقير مثل لبنان حالياً، تؤدي الى زيادة الضغط على ماليته العامة.
ثانيا- لأن شطب الاصفار يساهم في تخفيف الوطأة النفسية حيال النظرة الى الليرة.
هذا الاجراء يمكن اللجوء اليه عندما يصل سعر صرف الدولار الى ستة ارقام، بانتظار الوصول يوما الى مرحلة جديدة، مع بدء تنفيذ خطة للانقاذ، تصبح معها العملة الوطنية طبيعية، ولا حاجة بالتالي، الى استبدالها او شطب الأصفار منها.