اجراءات قد توقف مسيرة ارتفاع الدولار

.

مع وصول سعر صرف الدولار في السوق السوداء الى ستة أرقام، يكون الاقتصاد قد دخل مبدئيا في مرحلة التضخّم المفرط (hyperinflation). وفي هذه المرحلة تنتقل الارقام من التفلّت المنضبط الى التفلّت المطلق. وهذه الحالات عرفتها دول كثيرة عبر التاريخ، وفي الفترة المعاصرة، حيث يصبح معها مشهد العملة الوطنية مدعاة للسخرية، من خلال استخدام كميات كبيرة من العملة الورقية لشراء حاجيات بسيطة. ولا يزال مشهد كدسة الاموال مقابل شراء محارم ورقية ماثلا في الأذهان، حيث يتم استخدام كدسات ورقية من العملة اكبر بكثير من حجم المحارم الورقية التي تشتريها هذه الكمية من العملة. وسرت «النكتة الاقتصادية» يومها من خلال القول انه من الاوفر على المستهلك استخدام العملة الورقية بدلا من المحارم الورقية.

هذه الحالات عرفتها بشكل نافر جدا دول انهارت عملتها الى حد الغائها، كما هي الحال في زيمبابوي مثلا، حيث اضطرت السلطات في العام 2008 ، الى التخلي عن العملة الوطنية وحصر التعامل بالعملات الاجنبية. ومن المفارقات ان زيمبابوي استعانت بعملة الدولة التي تفرض عليها عقوبات اقتصادية، (الدولار الاميركي) لتكون البديل عن عملتها. وفي المقابل، هناك نماذج اكثر اعتدالا للتضخم المفرط، مثل الذي تواجهه الارجنتين على سبيل المثال، او ايران ايضا.

وهنا، لا بد من الاشارة الى الفارق كبير بين التضخم المفرط المعتدل، والتضخم غير المنضبط. في الحالة الاولى، يُقاس التضخم بعشرات او مئات المرات. وعلى سبيل المثال، بلغت نسبة التضخم في ايران خلال سنة حوالي 52%، وفق الاحصاءات الرسمية الايرانية. في حين ان المعلومات من خارج البلد تشير الى نسبة اكبر، لكنها تبقى مضبوطة ولا تتجاوز الـصفرين. في حين ان نسبة التضخم المفرط في زيمبابوي تجاوزت الستة أصفار (مليون في المئة) في العام 2008. وفي ذروة التضخم المفرط، وصل سعر صرف الدولار الاميركي مقابل الدولار الزيمبابويي اكثر من 2 تريليون (تسعة أصفار). ولذلك اضطرت السلطات الى استحداث فئات جديدة من العملة الورقية خارج المألوف، واصبحت هناك ورقة من فئة الـ100 تريليون! وهي فئة قياسية لم تعرفها اية عملة ورقية اخرى عبر التاريخ. وفي تلك المرحلة أُلغيت عملة زيمبابوي من التداول في التجارة العالمية، وخسرت وظيفتها الاساسية كوسيلة تداول وابراء ذمم.

هذه المقاربة تهدف الى القول ان ما يُعرف بالتضخّم المفرط، والذي دخله الاقتصاد اللبناني مع وصول سعر الليرة الى الخمسة اصفار، يعني ان البلد انتقل الى مرحلة جديدة أشد قساوة. وهذا الوضع قد يشكل مخاطر اضافية على المشهد الاقتصادي العام، اذ تقترب الليرة من فقدان وظيفتها كوسيلة دفع.

يبقى السؤال، هل من حلول يمكن ان تُتخذ اليوم، وقبل البدء في مسيرة الحل الشامل، للجم التضخّم المفرط، من خلال لجم انهيار سعر صرف الليرة؟

لا توجد حلول بالمعنى الحقيقي، لكن يمكن اللجوء الى بعض الاجراءات التي من شأنها أن تخفّف من الانهيار السريع في سعر صرف الليرة، من أهمها:

اولا- اعادة تنظيم عمل منصة «صيرفة» وتحويلها إلى اداة مالية قادرة على مجاراة السوق من خلال اعتماد سعر صرف حقيقي يعكس العرض والطلب وحجم الاقتصاد.
ثانيا- خفض حجم الكتلة النقدية بالليرة من خلال عملية شفط لمرة واحدة، تتم من خلال ضخ كمية محددة من الدولارات، وقد باتت كلفة سحب العملة أقل من السابق، بسبب ارتفاع الدولار الى الـ100 الف ليرة حاليا.
ثالثا- اعادة التوازن المالي الى المالية العامة للدولة، من خلال تحسين الايرادات لتصل الى مستويات كافية لضمان عدم الاضطرار الى طباعة المزيد من النقد. وهذا البند يشكل بين القصيد في الاجراءات المطلوبة، وهو يتطلب جهدا استثنائيا، من خلال مجموعة خطوات، بعضها يصعب تحقيقه في الوقت الراهن.

وعلى سبيل المثال، وللوصول الى التوازن المالي قبل التعافي، لا بد من رفع تسعيرة الدولار الجمركي لتصبح واقعية، كما كانت قبل الأزمة. أي ان يساوي الدولار الجمركي السعر الحقيقي للدولار في السوق السوداء، أو سعر منصة صيرفة، في حال نجحت المنصة في الحلول مكان السوق الحرة. كذلك، ينبغي خفض منسوب التهريب، لئلا يؤدي رفع الدولار الجمركي الى نتائج عكسية. كذلك، ينبغي القضاء على الاقتصاد الاسود، لتحويل الايرادات الى الخزينة بدلا من ذهابها، كما هو الوضع اليوم، الى جيوب بعض التجار والمستوردين والمضاربين.
فهل ان حكومة تصريف الاعمال الحالية، وفي ظل التوازنات السياسية القائمة، وقبل الوصول الى الانتظام السياسي، قادرة على هذا الانجاز؟

الجواب البديهي انها عاجزة عن هذه الاجراءات، وبالتالي، ينبغي ان نتوقّع المزيد من التضخّم المفرط، والانهيار الاضافي السريع في سعر العملة الوطنية.