شكّل الاتفاق السعودي الايراني برعاية صينية الحدث الابرز على الساحة العربية والدولية. واذا كان التركيز ينصب على تحليل وقراءة التداعيات التي قد تشهدها دول المنطقة، جراء هذا الاتفاق في المرحلة المقبلة، فان الجانب الاقتصادي في الانعكاسات المتوقعة لا يُستهان به، وقد يتطور وفق السيناريوهات التي قد تطرأ في الاشهر القليلة المقبلة، بعدما يتضح مسار وسرعة تنفيذ بنود الاتفاق، المعلنة منها، وتلك التي أبقيت سرية.
ومن خلال تقسيم الانعكاسات المحتملة على اقتصاديات دول المنطقة، تبرز الحقائق والاحتمالات التالية:
اولا- على مستوى قطاع النفط، وهو القطاع الابرز في المنطقة، سيما ان السعودية وايران تشكلان مجتمعتين، قوة نفطية ضخمة لها تأثيرها الاساسي على السوق، لا تبدو الانعكاسات سريعة ومؤثرة في المرحلة الاولى. وهناك اعتبارات عدة تحول دون تغيير المشهد النفطي بعد الاتفاق، منها وجود عقوبات اميركية ودولية على تصدير النفط الايراني. هذه العقوبات تحدّ كثيرا من قدرة طهران على لعب دور محوري في السوق النفطي. كذلك، فان تأثير الاتفاق على دور «اوبك بلاس» لن يكون كبيرا، ولو ان البعض يعتقد ان روسيا ستكسب مساحة اضافية في هذه المجموعة لجهة دعم قرارتها في كميات الانتاج، وتوقيت اتخاذ قرارات خفض او زيادة الانتاج. كذلك، فان الصين، ورغم انها الزبون الاول للنفط السعودي والايراني والروسي، الا انها لن تغير في كوتا توزيع الاستيراد من هذه الدول، خصوصا انها سبق وزادت حصة الاستيراد من روسيا، نتيجة للحرب في اوكرانيا، وبسبب الاسعار المخفضة التي حصلت عليها من موسكو.
ثانيا- على مستوى تبادل الاستثمارات، قد يشهد هذا القطاع تطورا ايجابيا في بعض دول المنطقة، لكنه يحتاج الى وقت طويل لكي يترسّخ. ذلك ان الاستثمارات المرتبطة بالرساميل لا تتحرك بالسرعة نفسها التي قد يتحرك فيها الاتفاق السياسي، انطلاقا من حذر اصحاب الرساميل. وبالتالي، قد لا تشهد الفترة الاولى بعد الاتفاق تبادلاً استثمارياً يُذكر بين السعودية وايران، لكن الاستثمارات الايرانية الخاصة في دول خليجية اخرى قد تتطور، سيما في دولة الامارات العربية المتحدة، وعلى وجه الخصوص في دبي. وتستقطب دبي كمية كبيرة من استثمارات عائدة لايرانيين. وسيساهم الاتفاق في دعم هذا التوجه الاستثماري، وسيشجّع على زيادة حجم هذه الاستثمارات.
ثالثا- سينعكس الاتفاق استرخاء في دول المنطقة، سيما الخليجية منها. وستظهر مفاعيل هذا الاسترخاء بشكل خاص في دول كانت تعاني اكثر من سواها من انعكاسات التوترات السابقة، وفي مقدمها دولة البحرين، التي قد يستفيد اقتصادها بشكل مباشر من نتائج الاتفاق.
رابعا- الاقتصاد السعودي نفسه سيكون امام فرصة اضافية لتحصين الوضع، خصوصا لجهة الدور الاقتصادي الذي يسعى ولي العهد الى ارسائه من خلال خطة 2030 التي يتم تنفيذها بحرص كبير على الالتزام بالمواعيد الواردة فيها. نجاح هذه الخطة يحتاج الى اجواء تهدئة واسترخاء سياسي وعسكري يمكن ان يؤمّنها الاتفاق مع ايران. ولا شك في ان ما حصل في السابق، عندما تمّ قصف المنشآت النفطية في ارامكو السعودية، كان بمثابة إنذار مبكر للأضرار الاقتصادية التي قد تلحق بالمملكة جراء تطور الصراع مع الايرانيين. وليس خفياً على أحد، ان القطاع النفطي في السعودية هو الشريان الحيوي للاقتصاد السعودي، وأي مسّ به ينعكس سلباً على الوضع الاقتصادي. وتعلّق الحكومة السعودية آمالاً كبيرة على شركة «أرامكو» خصوصا بعد خطوة خصخصة جزء منها (5%)، وادراج الاسهم في البورصات العالمية. وبالتالي، لا تستطيع السعودية ان تتحول الى منصة لجذب الاستثمارات الاقليمية والعالمية، في ظل استمرار مخاطر الحرب. كذلك، فان السعودية تسعى الى عمليات جذب سياحي وترفيهي، وهذا القطاع لا يمكن ان ينمو من دون استقرار قد يساهم الاتفاق في توطيده. ويُضاف الى كل ذلك، ان وقف الحرب في اليمن، اذا حصل، سيؤدي الى خفض الانفاق السعودي على المجهود الحربي، بما سيساهم بدوره في اراحة المالية العامة وتحسين الاداء الاقتصادي بشكل عام.
إلى جانب هذه الانعكاسات التي قد تحتاج إلى بعض الوقت قبل ان تتبلور، لا بد من الاشارة الى أن مناخ الاسترخاء في حال ترسّخ، سينعكس على المستوى الاقتصادي على كل الدول التي تشكل ساحات صراع للنفوذ السعودي الايراني، ومنها اليمن، العراق، سوريا ولبنان. هذه الدول قد تستفيد مع الوقت، من مناخ التوافق الاقليمي، ومن البديهي ان تتأثر اقتصادياتها ايجاباً في حال توقفت الصراعات الحادة التي كانت تتخذ اشكالا مختلفة، فتنفجر حروباً مباشرة، كما في اليمن، او أزمات حكم وفساد، كما هي الحال في العراق ولبنان.
يبقى أن التركيز من الناحية الاقتصادية، ينبغي ان يتناول ايضا الموقف الاسرائيلي من الملف، على اعتبار ان المستثمرين الاسرائيليين يحاولون التوسّع في دول المنطقة التي عقدت معهم اتفاقيات سلام. وهنا، لا بد من مراقبة ما قد يجري في دولة الامارات تحديدا، حيث قد تتقاطع «حرب» الاستثمارات بين الاسرائيلي والايراني.
في المحصلة، قد لا تكون النتائج الاقتصادية للاتفاق السعودي الايراني سريعة وواضحة في دول المنطقة، لكنها ستتبلور اكثر وستصبح وازنة، في حال ترسّخ الاتفاق، وطال أمده، وتطور ايجابياً في اتجاه المزيد من التعاون بين الدولتين.