بوجه متعب وصوت متأثر، يروي لي اللبناني عبد الرحمن طيارة قصة خروجه المثير جداً من عاصمة السودان – الخرطوم إثر الاشتباكات “الأخوية” بين العسكر فيها! جلسنا في مقهى في عين المريسة في بيروت. هذه المدينة التي يحبها عبد الرحمن كثيراً ورفض كل عروض العمل للخروج منها وترك وطنه وأهله وأحبته ومدينته.
يقول طيارة إنه سافر إلى السودان صباح الخميس ١٣ نيسان (ذكرى الحرب اللبنانية) في زيارة كان من المفترض أن تدوم ٤ أيام. وصل الساعة العاشرة صباحاً عبر أديس أبابا من طائرة أقلته من مطار رفيق الحريري الدولي. أمضى اليومين الأولين بشكل طبيعي فأجرى لقاءات عمل خلال فترتي النهار والإفطار عند الغروب (الوقت كان في رمضان المبارك) مع أشخاص يعملون معه. هو يشغل منصب مدير إقليمي للشرق الأوسط وأفريقيا في شركة أدوية عالمية.
صباح السبت ١٥ نيسان إستيقظ على أصوات قوية جداً حسبها أصوات أعمال صيانة في الفندق. يتلقى اتصالاً من وكيل الشركة المحلي يخبره فيه أن موعد لقاء الساعة التاسعة لن يحصل لأن «هناك إشكالات على طريق المطار» . الأصوات تتصاعد. ذهب عبدالرحمن نحو النافذة ليفتح الستائر. الفندق الذي يسكنه موجود في شارع النيل المطل على النهر محاط بالمطار وبمراكز عسكرية ومدنية. شاهد من غرفته الحرائق والدخان المتصاعد في عدة أمكنة.
ذهل لما شاهد وكأنه غادر لبنان الذي يعاني «الحرب الاقتصادية والمعيشية والسياسية» إلى الحرب العسكرية. «أكلنا الضرب» قال لنفسه. إتصل مجدداً بالوكيل السوداني وطلب منه أن يؤمن له الذهاب فوراً إلى المطار ليغادر. قال الوكيل: «لا تستطيع. المطار أقفل والحالة سيئة جداً» . هرع إلى جهاز التلفزيون ليشاهد «الجزيرة» التي تبث صوراً لمطار الخرطوم واحتراق عدد من الطائرات فيه. إتصل بعائلته على الفور ليخبرهم بنفسه ما جرى وليعلمهم بأن سوء الأوضاع ستجعله يؤجل سفره المقرر غداً الأحد، وأخبرهم صراحة بأنه قد لا يعود قريباً !
وهكذا، جلس عبد الرحمن في الفندق من الخميس إلى السبت الذي تلا موعد سفره (١٠ أيام). كانت الأمور المعيشية في الفندق تسير بشكل حسن: من مأكل ومشرب واتصالات داخلية ومع الخارج. النزلاء كانوا قلائل كالتالي :عبد الرحمن (لبناني) وهندي واحد وثلاثة أميركيين وفرنسيان. ما حصل أنه فور حصول الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع غادر معظم النزلاء الذين كانوا سودانيين إضافة إلى آخرين استطاعوا المغادرة بشكل سريع. منذ اليوم الأول إتصل عبد الرحمن بالسفارة اللبنانية في الخرطوم فأرسل بريداً إلكترونياً أخبرهم فيه أنه يقيم في فندق “كورينتيا” ويسألهم عن أي خطط للإجلاء. يأتيه الجواب: «تلقينا رسالتك بشكل جيد» . في اليوم الثاني من الأحداث تلقى عبدالرحمن رسالة من السفيرة اللبنانية في الخرطوم تطمئن فيها عليه وتخبره بأن عدداً من وسائل الإعلام والمواقع بدأت تسأل عن اللبنانيين ومنهم أنت عبدالرحمن. وطلبت السفيرة منه أن يبقى «آمناً» في الفندق وينتظر تعليمات للإجلاء. هكذا بقي الحال لأسبوع كل يوم تواصل مع السفيرة وهي تقول «إنتظر» .
خلال هذا الوقت «الطويل جداً» بالنسبة له وللعالقين في المعارك كان عبدالرحمن يرسل عبر مواقع التواصل الاجتماعي رسائل للبنانيين العالقين في الخرطوم طالباً منهم أن «نجمّع بعضنا» . بمسعى من رئيس الجالية اللبنانية في السودان سعد الله ميقاتي الذي كان خارج السودان عند وقوع الأحداث وابنه زاهر ميقاتي، بدأ اللبنانيون بالتواصل الهاتفي وعبر الرسائل إيذاناً بالتقائهم لمغادرة الخرطوم بشكل جماعي. قرروا «الاعتماد على الله وعلى أنفسنا» دون انتظار السفارة. كان الفندق الذي يقيم فيه عبدالرحمن طيارة «كورينتيا» خط نار في المعارك. في الشارع نفسه لم تحصل معارك عسكرية لكنه محاصر بالمعارك.. والموت!
فندق آخر في الخرطوم هو فندق روتانا. وكان يقطنه حوالى ٣٠ لبنانياً. يبعد عن فندق عبدالرحمن حوالى ٢٠ دقيقة في الأوقات العادية. ولكن لم يجد عبدالرحمن أي سائق أو جهة أو مؤسسة أن يأتي إلى كورينتيا وينقله إلى حيث تجمّع اللبنانيين. الوضع خطير جداً. عبدالرحمن تواصل مع عدد من اللبنانيين ليتجمعوا ويذهبوا عبر البر نحو مصر. لكن رئيس الجالية نصح بتوجههم باتجاه بورتسودان. وهكذا عمل السيد سعدالله ميقاتي على تأمين حافلة كبيرة تنقل اللبنانيين من فندق «روتانا» . في الوقت نفسه كان أمين عام الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير يقوم بجهوده لتأمين وصول اللبنانيين آمنين إلى بورتسودان ومنها إلى جدة السعودية فبيروت.
رغم صعوبة الأمر إستطاع سعدالله ميقاتي أن يؤمن الحافلة لنقل اللبنانيين مساء السبت. أما كلفة التنقل فكانت مطلوبة من اللبنانيين أنفسهم. كل شخص يدفع تكاليف الرحلة الموعودة. ووقت الانطلاق صباح الأحد.
حاول عبدالرحمن مجدداً وبقوة الوصول من فندقه نحو روتانا. لم يجد أي شخص ينقله سالماً إليه. كما حاول آخرون مساعدته في إيجاد سائق ينقله فلم ينجحوا. «فقدتُ الأمل» بالوصول إلى حافلة النجاة! قال لي عبدالرحمن.
تجمّع اللبنانيون المقيمون في «روتانا» ومن استطاع الوصول إليه من مناطق أخرى، من دون عبدالرحمن الذي منعته المعارك من الانضمام إليهم. الأحد صباحاً انطلق اللبنانيون (٣٣ لبنانياً) في الرحلة الأولى من روتانا مع عدد من السوريين والفلسطينيين وكانوا ٥٧.
نام عبدالرحمن السبت فجراً ولم ينم! الخوف والإثارة والأمل والرجاء. كلها معجونة عجناً! قبل أن يسهو قليلاً تواصل عبر أحد معارف ابنه الشاب عمر الموجود في بيروت مع مراسلة «الجزيرة الإنكليزية» في الخرطوم واسمها هبة مورغان. وللمصادفة الهائلة، أنها كانت «تسكن» في فندق كورينتيا وتبث منه أخبار المعارك في المدينة. هكذا صار «الصوت» ممكناً أن يصل إلى كل العالم الذي يشاهد. كما أن للسيدة المراسلة قدرة على التواصل مع أشخاص محترفين، قادرين على التنقل في الخرطوم بشكل آمن. وعدت هبة بأن «تساعده على الخروج» من المدينة.
«الإشارة» النهائية لعبدالرحمن بضرورة الخروج من الفندق ومن الخرطوم كانت صباح الأحد. إستيقظ ووجد أن لا إشارة إنترنت ولا اتصالات دولية «رومينغ» . «حسيت حالي انقطعت عن العالم» .
نزل من غرفته ليجد من تبقى من النزلاء «حايصين» خائفين. ذهب فوراً إلى مكتب «الجزيرة» ليسأل عن هبة مورغان قبيل التاسعة صباحاً. قيل له:”عندها نقل مباشر خلال دقائق» . ظهرت هبة وقالت لعبدالرحمن: «أعطني خمس دقائق بعد موجز الأخبار» .
عادت إليه. قالت: «سأوصلك مع سائق يستطيع إخراجك من هنا. لكن الوضع خطير وسيكون على مسؤوليتك» أجابها: «أوقع لك على ورقة في هذا المجال. لكن أريد الخروج». طلع عبدالرحمن نحو غرفته ليضب أغراضه بعز اتفاق مع هبة على أنها ستطلبه في أي وقت فور وصول السائق «المنقذ» .
كان يعلم أنه قد لا يصل إلي روتانا إلا بعد مغادرة الباص الأول. لكن أن يصل إلى روتانا أفضل من البقاء في كورينتيا لأنه مكان أكثر أماناً. وثانياً تنطلق منه رحلات المغادرة نحو بورتسودان.
سيعلم في وقت ليس ببعيد أن الباص الأول غادر. وأن الله سبحانه أخّر رحلته لأنه سيكون «مسخراً» لإنقاذ عشرات الأرواح من لبنانيين وغيرهم.
متأثراً بأفلام «حب البقاء» التي يشاهدها، جهز عبدالرحمن شنطة صغيرة فيها «حاجيات البقاء على قيد الحياة» . من تمر وماء ومواد إسعافات أولية. وترك أغراضه الأساسية الأخرى في الفندق.
رآه النزلاء يحمل الشنطة. أين أنت ذاهب؟ سأله الهندي. ذاهب مع «الجزيرة» . «تنصحني أذهب معكم؟».
ـ أنا لا أنصح أحداً. أخاف أن أنصحك فتحصل مصيبة لا سمح الله.
وهكذا خرج عبدالرحمن من الفندق «الآن» بحسب طلب هبة فقد وصل السائق.
خرج مع هذا «الزلمي» من دون أن أعرف اسمه. «رحلة الرعب» انطلقت من كورينتيا إلى روتانا. أصعب اللحظات عاشها وهو يسمع ويشاهد مشاهد الموت. كان السائق يراوغ ومعظم الرحلة كانت على طرقات داخلية رملية. شاهد سيارات ودبابات محترقة. تشتم رائحة الجثث المحترقة أيضاً. «هل شاهدت قتلى؟» «حاولت أن لا أنظر عن قصد إلى الجثث» . كان أملي أن أشاهد أشخاصاً أحياء للدلالة على الحياة لا الموت.
إستغرقت الرحلة ساعة بدلاً من ٢٠ دقيقة بسبب البطء في السير وتحويل الطريق والحواجز والحذر.
الوقت: الأحد الساعة ١١ صباحاً. تأخر عبدالرحمن عن قافلة الإخلاء الأولى حوالى ٤ ساعات. فقد غادر اللبنانيون الساعة ٧ صباحاً.
دخل الفندق. «متل الأفلام». مئات الأشخاص الذين لا تستطيع إحصاءهم. في الحديقة واللوبي وكل مكان. معظمهم كان من الجالية التركية ومعهم السفير التركي بانتظار وصول ١٠ باصات لإخلائهم. سأل عبدالرحمن السفير التركي عن إمكانية أن يغادر معهم نحو بورتسودان. فاعتذر منه لأنهم مغادرون بطريق أثيوبيا. إستطاع زاهر ميقاتي تأمين غرفة لعبدالرحمن في «روتانا» . كان عبدالرحمن «يشحد» الإنترنت للتواصل مع عائلته في لبنان ومع رئيس الجالية وابنه ومع اللواء الخير. كان هدفه الانطلاق من روتانا نحو «الخلاص» في بورتسودان. الآن وقت تأمين باص من هنا نحو المدينة السودانية الآمنة. عمل غروب واتس آب وفيه اللواء خير وسعدالله وزاهر ميقاتي بهدف التواصل للرحلة الآمنة المقبلة. بدأنا نجمّع اللبنانيين الذين سيذهبون مع عبدالرحمن. أحد اللبنانيين تواصل مع عبدالرحمن. «زوجتي لبنانية تعمل في السودان وهي طبيبة تعمل في مركز طبي. عندها مشكل أن جواز سفرها ليس معها. الباسبور محجوز مع السلطات السودانية بغرض إنجاز أوراق الإقامة في البلاد» . عرضت الموضوع على اللواء خير فأكد له أنه يحل الموضوع مع السفيرة اللبنانية التي تعمل لها «ورقة تسهيل مرور» . بين نهار الأحد والإثنين قبل الظهر بدأ اللبنانيون بالتواصل للتجمع. شاب آخر تواصل مع عبدالرحمن وأخبره أنه مع زوجته وابنته وأبيه، ثلاثتهم جوازاتهم محجوزة عند السلطات السودانية أيضاً لأنهم يعملون على الإقامات» . فأجابه بأن يأتي مع العائلة وسيحل اللواء خير الموضوع مع السفيرة. صار عند عبدالرحمن «غرفة عمليات» من أجل الرحلة المقبلة. يتصل بفلان ويحل قضية علان. لكن أصعب موضوع لم يتم حله. لم يتم إيجاد باص لنقل الناس. والموضوع الصعب الآخر هو عدم وجود مال كاف كي يعطى السائق الذي يقود الحافلة من «روتانا» إلى بورتسودان في رحلة تستغرق ١٤ ساعة قيادة. تكلفة الرحلة ١٥ ألف دولار أميركي تقسم على خمسين شخصاً فتكون كلفة الشخص الواحد ٣٠٠ دولار. التحدي الأول كان في إيجاد باص. التحدي الآخر في «تعبئته» . والتحدي الثالث بأن يكون مع كل مسافر المال الكافي لدفع التكاليف.
أرسل على «الغروب» للبنانيين بأن الانطلاق سيكون الثلاثاء الساعة الرابعة فجراً. وكان في ذهنه أنه «سيجد باصاً مهما كلفه الأمر». سعدالله وزاهر ميقاتي يعملان لتأمين الباص. إتصل بالنائب إبراهيم منيمنة. ووكيله السوداني. كل هؤلاء سعوا لتأمين حافلة من دون جدوى. الطلب على الباصات كبير جداً. ومن يسبق، يحصل على حافلة. النقص كبير بعدد الباصات. وصارت تجارة مربحة جداً.
الإثنين ٢٤ نيسان الساعة التاسعة مساء: يتصل وكيله ليزف إليه الخبر. وجدت الباص ليقلكم. يريد ٧ مليون و٨٠٠ جنيه سوداني أي ما يعادل ١٣ ألف دولار. وعلى كل مسافر أن يدفع ٢٦٠ دولاراً. أجاب: «أوك». قال السائق أتحرك عند السادسة من صباح الثلاثاء وأكون عندكم حوالى السادسة والنصف.
حاول عبد الرحمن النوم. في روتانا «شوب وبرغش» وقلّ الطعام بشكل كبير. بانتظار أن «يطلع الصبح» ليغادروا. إسودت الدنيا في وجهه مرة أخرى. ذهب ليطلب من المسافرين أن يدفع كل منهم ٣٠٠ دولار فانهاروا! هناك من ليس معه هذا المبلغ. صرفوا أموالهم بسبب الحرب أو طول الإقامة في الفندق. اتصل عبدالرحمن باللواء محمد خير. قال: «ما عندي مشكل أرسل لك الأموال اللازمة لكن ليس هناك تحويلات». لجأ عندها لسعدالله ميقاتي وقال له: «فيك تجيب لي مصاري من أوتيل روتانا لأن لك علاقات طيبة معهم» . فأجابه: «تكرم عينك». وهكذا بدلاً أن يدفع اللبنانيون للفندق أخذ عبدالرحمن من إدارة الفندق ١٥٠٠ دولار كي يدفع عن عدد من المسافرين لسائق الباص. إنضم للبنانيين ٩ سوريين ومعهم فلسطيني-أردني يريدون المغادرة. فزاد عدد المغادرين وزاد المال المرصود للسائق.
١٥ لبناني ٩ سوريين وفلسطيني-أردني ينتظرون أن تنضم إليهم مجموعة من ٢٥ شخصاً من جنسيات أخرى يريدون المغادرة. الساعة السادسة والربع صباحاً كما هو مرسوم، إتصل عبدالرحمن بسائق الباص. قال: أنا في الطريق أحتاج نصف ساعة للوصول. ولم يصل! يطلبه فلا يرد. ربما ذهب إلى مجموعة مغادرة أخرى دفعت له أمولاً أكثر، وربما أصابه مكروه. لا أحد يعلم.
تلقى اتصالاً من سائق آخر قال له: «أستطيع أن أوصلكم لكن أريد ٢٢ ألف دولار». بدأت تجارة الحياة وتجارة الموت وتجارة المواصلات.
في لحظات الضياع والخيبة، خطرت على بال عبدالرحمن أن يتصل بالسفير الأردني في الخرطوم الذي كان على تواصل معه في اللحظات الأولى للأزمة. اتصل به فأخبره أنه صار في بورتسودان مع الأردنيين الموجودين في الخرطوم. أعطاه رقم شخص سوداني اسمه «معروف». اتصل به عبدالرحمن من قبل السفير. وعده معروف خيراً. ساعده في التواصل معه الشاب الفلسطيني-الأردني محمد الموجود في روتانا. بجهود محمد وجهود عبدالرحمن، قام معروف بتأمين باص «من تحت الأرض» . سائق الباص يقول لمحمد قبل أن يصل للفندق: أريد ٩ مليون جنيه سوداني. وإذا كان الدفع بالدولار أريد ٢٠ ألف دولار. وافق عبدالرحمن ومحمد. وعدوه بالدفع عند الوصول إلى بورتسودان.
أخيراً. وصل الباص. كل مشاكل الساعات الماضية صارت هينة أمام الوضع الآن.
إنطلق الثلاثاء ٢٥ نيسان الساعة ١١ صباحاً. أطول ثلاث عشرة ساعة في حياة عبدالرحمن وحياة «الباص الأخير» المغادر. كلما يبتعد الباص يرتاح المغادرون. أول ثلاث ساعات حرجة كانت في الخرطوم ثم خرجوا منها. توقف الباص كل أربع ساعات للراحة والأكل. مر الباص على حواجز معظمها كان لقوات الدعم السريع الذين دققوا في هويات المسافرين. وتركوا الباص يسير.
وصل الباص إلى بورتسودان منتصف ليل الثلاثاء- الأربعاء. هناك كانت السفيرة بانتظارهم فأخذت الجوازات لختمهم من قبل السلطات السودانية. تم حل بعض المسائل اللوجستية بتواصل بين الخارجية اللبنانية والخارجية السودانية لإخراج اللبنانيين الذين لا يحملون وثائق سفر. في بورتسودان بقي الجميع من ١٢ ليلاً حتى الثانية عشرة ظهراً مفترشين الأرض بانتظار باخرة الإجلاء السعودية. المملكة قامت بجهود جبارة للتخفيف عن المغادرين ولم تفرق بين جنسية وأخرى. الساعة ٣ بعد الظهر انطلقت الباخرة. منذ اللحظة الأولى لدخولنا الباخرة نلنا معاملة «لا يمكن وصفها» من البحرية السعودية. من أكبر ضابط لأصغر جندي كانوا في خدمة الجميع. الكلام الطيب والماء والعصير والطعام وكل ما يلزم الرحلة من البر السوداني إلى جدة السعودية. كان عددنا على السفينة حوالى ٢٠٠ شخص من جنسيات العالم كله. إلتقى عبدالرحمن في السفينة الحربية الأميركيين الذين كانوا معه في فندق «كورينتيا» وهم خرجوا بالطريقة نفسها التي خرج بها عبدالرحمن بمساعدة الصحافية هبة مورغان.
بقي الجميع في الباخرة ١٨ ساعة. يعتبر عبدالرحمن أن الوقت في السفينة لم يعد له قيمة. لم يعد يفكر في الساعات وهو الخارج تواً من «الموت». فلتأخذ الرحلة من الوقت ما تأخذ. لا يهم.
أكل الجميع الساعة ٦ من طعام البحارة السعوديين. النساء داخل الباخرة في غرف خاصة. الرجال بقوا على سطح الباخرة. صورة لا ينساها عبدالرحمن ما دام حياً. ينظر إلى السماء. الهواء يضرب وجهه. ينام. أجمل نومة في حياته. نام عند السابعة واستيقظ عند الثانية. شرب الماء ثم نام ساعتين. ينام ويفيق. عند التاسعة كان استقبال رسمي وإعلامي للسفينة في مرفأ جدة. توجه الجميع للباصات وانتظروا إجراءات الدخول لمدينة جدة. أدخلتهم السلطات إلى المدينة وأسكنتهم في فنادق برعاية المملكة العربية السعودية وباستضافتها. البعض ناموا ليلتهم وآخرون ذهبوا يعملوا عمرة في مكة المكرمة. غادر عبدالرحمن الساعة السادسة من مساء الخميس ٢٧ من الفندق إلى المطار فبيروت.
لم ينم في الفندق ولم ينتظر لليوم الثاني كي يأتي مع المجموعة المغادرة إلى لبنان. أراد أن يتفادى الإعلام والزحمة. قال لي: «منير، أردت أن أروي قصتي لك شخصياً لأنك تابعتني منذ اللحظة الأولى التي علقتُ فيها مع اللبنانيين في الخرطوم ونقلت ذلك عبر تويتر وعبر كتاباتك».