شبهات التبييض تترسّخ… لبنان يدنو من اللائحة السوداء

.

هل أصبح تبييض الاموال في لبنان شائعاً الى درجة بات يشكل خطرا على النظام المالي برمته، بحيث قد يتمّ عزل البلد عن النظام المالي العالمي، ويصبح عاجزا عن استيراد حاجاته، سوى من خلال آلية معقدة لا تتيح حرية الاستيراد القائمة اليوم؟

هذا السؤال مطروح بسبب ارتفاع منسوب الكلام الخارجي في شأن تفشّي عمليات تبييض الاموال في لبنان، خصوصا بعد صدور التعميم 165، والذي اعتبره البعض بمثابة عنصر اضافي سيساهم اكثر في دعم عمليات التبييض، على اعتبار انه سيتيح خلق دولار فريش، غير قابل للتحويل الى الخارج، ويمكن استخدامه في الداخل فقط.

ومن المعروف أن مجموعة العمل الدولي (GAFI) تراجع وضع لبنان لجهة التزامه المعايير الدولية لمكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب. وسبق للبنان ان عانى في التسعينيات من إدراجه على اللائحة الرمادية، اي ضمن الدول التي تعاني من قصور في أنظمتها المالية، بما قد يتيح تمرير عمليات تبييض الاموال. وقد قامت الحكومات والمجلس النيابي بورشة تشريعات، واتخذت اجراءات سمحت في النتيجة برفع اسم لبنان عن هذه اللائحة.

اليوم، تجدّد خطر إعادة لبنان الى المنطقة الرمادية، بل ان المؤشرات توحي بأن هذه العودة شبه اكيدة، لكن الخطر يكمن في وضع لبنان على اللائحة السوداء بشكل مباشر، ذلك ان اقتصاد الكاش الذي توسّع بعد ازمة الانهيار اواخر العام 2019، لم يعد يسمح بمراقبة مصادر الاموال، او مصادر تمويل الصفقات التي يتم عقدها، وبالتالي اصبحت الرقابة على حركة الاموال شبه مستحيلة.

وفي هذا السياق، تشير المعطيات الى ان لبنان وضع حاليا تحت الرقابة الشديدة، خصوصا ان كميات الدولارات الموجودة في السوق، رغم الانهيار والافلاس، باتت تلفت انتباه المؤسسات العالمية التي تراقب ملفات التبييض، وفي مقدمها «غافي». وباتت حركة الأموال في الداخل اللبناني شبه غائبة عن رادار الرقابة المحلية والدولية، وبالتالي، من البديهي ان تتم اعادة النظر بتموضع لبنان على لائحة التبييض.

لكن الانتقال إلى اللائحة الرمادية لا يشكل في حدّ ذاته خطرا داهما على الوضع المالي، لكن خطورة هذا الانتقال تكمن في صعوبة الخروج منه قبل بدء تنفيذ خطة للتعافي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي. وما قامت به الحكومات في السابق، من اجل الخروج من اللائحة الرمادية الى اللائحة البيضاء، لا تستطيع انجازه حكومة تصريف اعمال، أو مجلس نيابي تحول هيئة ناخبة. وبالتالي، فان التموضع في اللائحة الرمادية لا يعدو كونه محطة مؤقتة، قد ينتقل بعدها البلد الى اللائحة السوداء، مع ما يعنيه ذلك من ضغوطات وصعوبات اضافية.

وفي هذا السياق، لا بد من التوضيح ان التواجد في اللائحة السوداء ليس مزحة، لأنه سيعني قطع العلاقات مع المصارف المراسلة فورا. وسيؤدّي ذلك الى توقف كل انواع التحاويل عبر الشبكة المالية العالمية (SWIFT). وسيصبح لبنان عاجزا عن فتح اعتمادات مصرفية للاستيراد، بما سيؤدي الى ضيقة خانقة. وستضطر الحكومة الى طلب النجدة من البنك الدولي، الذي قد يقوم بدور الوسيط للسماح باستيراد بعض السلع المصنّفة في لوائح البنك على اساس انها من الضروريات مثل القمح والطحين والارز، وبعض المواد الغذائية الاولية. وهذا يعني ان اللبنايين سيحرمون من معظم انواع الاستيراد التي يقومون بها حالياً. وللتذكير، فقد ارتفع حجم الاستيراد في العام 2022 الى حوالي 19 مليار دولار، وهو رقم قياسي قريب من رقم الاستيراد الذي كان قائما قبل العام 2019.

ولا يوجد حتى الان ما يؤكد ان مجموعة العمل الدولي لن تُقدِم على تصنيف لبنان ضمن اللائحة السوداء مباشرة، من دون المرور بمرحلة اللائحة الرمادية. وهذا الامر وارد تقنياً، قياسا بالانكشاف الكبير السائد في البلد على التعامل بالكاش. لكن ما يراهن عليه البعض، ولا يملك دليلاً حسياً على صحته، ان دول العالم، وفي مقدمها الولايات المتحدة الاميركية، لا تريد ان يصل لبنان الى مرحلة العزلة المالية الكاملة، وبالتالي فان هذا الموقف الدولي قد يسمح بتوقّع التعاطي بنوع من التسامح مع الوضع اللبناني، والاكتفاء بادراجه على اللائحة الرمادية، والايعاز الى المصارف المراسلة بمواصلة التعاون مع النظام المصرفي اللبناني، بانتظار تغيّر الوضع، والانتقال الى مرحلة جديدة من التعاون مع صندوق النقد والمجتمع الدولي، للخروج من الانهيار المستمر منذ حوالي اربع سنوات.