الانتقادات التي وجهها البنك الدولي إلى سياسة مصرف لبنان في ما خصّ منصة «صيرفة» فتحت العيون على امرين:
اولا- العلاقة المتوترة بين البنك الدولي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي وصف الانتقادات بأنها غبية، وكأنه يقول ان ادارة البنك الدولي لا تتمتع بالكفاءة!
ثانيا- حساسية ما يقوم به مصرف لبنان من خلال «صيرفة»، وما اذا كان المطلوب الاستمرار في هذا النهج، ما بعد سلامة، ام من الأفضل وقف العمل في المنصة لتوفير المزيد من الخسائر من احتياطي الدولارات، والتي قدّرها البنك الدولي حتى الان، بحوالي مليارين و500 مليون دولار.
بالنسبة الى العلاقة بين البنك الدولي وحاكم مصرف لبنان، من البديهي انها اصبحت سيئة منذ فترة. وفي الاساس، لم تكن العلاقة جيدة بما يكفي في الماضي، اذ ان البنك الدولي، ومعه صندوق النقد، لطالما أصدرا التقارير المالية، التي كانت تشير الى ثغرات ومخاوف في ما خصّ السياسة النقدية في لبنان. لكن، تلك التقارير لم تكن قادرة على التأثير في الرأي العام اللبناني، ولا في المسؤولين السياسيين، على اعتبار ان الجميع كان مرتاحا لثبات سعر صرف العملة اللبنانية، ولم يكن احد يرغب في ان يعرف الثمن الذي يُدفع من اجل هذا الثبات، او المخاطر المستقبلية التي قد تتسبّب بها هذه السياسة. اليوم، زاد منسوب التوتر في العلاقة بين سلامة والمؤسسات المالية الدولية، وهو من اشد المعارضين لأي اتفاق مع صندوق النقد. ولطالما وجّه الرجل في مجالسه الخاصة، انتقادات الى طريقة تعاطي الدولة اللبنانية مع صندوق النقد، وكان يؤكد ان الخروج من الأزمة مُتاح، من دون عقد اتفاق مع الصندوق. ومع بروز المشكلة التي يمر بها سلامة حاليا، ربطاً بملفه القضائي، وصدور مذكرة اعتقال دولية في حقه، من البديهي انه اصبح اكثر توترا، وهذا ما يفسّر ربما، خروجه عن طوره في وصف ادارة البنك الدولي بالغباء… القصة ليست قصة رمانة، بل قلوب مليانة.
أما بالنسبة الى منصة «صيرفة»، فهناك وجهتا نظر في الموضوع. وجهة النظر الاولى، تقول ان وجود واستمرارية المنصة امر ضروري وحيوي ما دام الانهيار المالي والاقتصادي قائماً، ولا توجد اي اداة أخرى يمكن من خلالها ضبط انهيار سعر العملة الوطنية.
ويعتبر «اتباع» هذا الموقف، ان منصة «صيرفة» هي نوع من انواع الدعم، وهي افضل بكثير من الدعم العشوائي للسلع الذي تبنّته الحكومات منذ الانهيار اواخر العام 2019، وحتى العام 2021، حيث تمّ انفاق حوالي 20 مليار دولار، ذهب القسم الاكبر منها الى جيوب التجار الكبار، الذين استفادوا من الدعم لتحقيق ارباح خيالية. وفي النتيجة، خسر المودعون الـ20 مليار دولار من اموالهم الخاصة. في حين ان دعم الليرة باعتدال، كما يجري اليوم، يتيح تسهيل حياة المواطنين، بخسائر اقل بكثير من الخسائر التي تسبّب بها دعم السلع العشوائي في الماضي.
كما ان دعم الليرة حاليا، يسهّل على الحكومة التعامل مع احتجاجات موظفي القطاع العام، الذين شلّوا الدولة في اضراباتهم، وعطّلوا قسما من الحركة الاقتصادية المتبقية حتى اليوم.
هذا الموقف، يقابله موقف معارض لدعم الليرة انطلاقاً من النقاط التالية:
اولا- ان الدعم، وبصرف النظر عن اسبابه وخلفياته، يتم من اموال خاصة يمتلكها مواطنون (المودعون). وبالتالي، لا شيء يبرّر هذا النهج، الذي يصحّ فيه التوصيف الجرمي، على اعتبار ان هناك من يصادر الملكية الخاصة ويتصرّف بها.
ثانيا- ان ما ينطبق على دعم السلع، يسري ايضا ولو جزئيا على اعمال منصة «صيرفة». فهناك مجموعات من المضاربين تحقق ارباحا خيالية وغير شرعية من خلال الانخراط في عمليات شراء الدولارات عبر» صيرفة» واعادة بيعها في السوق السوداء. وهناك شكوك في ان بعض هذه المجموعات على صلة بجهات داخل مصرف لبنان، تتشارك واياها الارباح مقابل تسهيل التداول عبر المنصة من خلال تأمين السيولة بالليرة.
التضارب في تقييم عمل منصة «صيرفة» يسمح بالقول ان المطلوب، وفي حال كان لا بد من الاستمرار في هذا النهج، بانتظار مرحلة الاتفاق مع صندوق النقد، وبدء تنفيذ خطة التعافي، ان يُصار الى ضبط عمل المنصة، وإخضاعها لمزيد من الشفافية، لكي يكون معروفا حجم الخسائر التي يتمّ تكبدها، ولكي يكون مضموناً ان الدعم يذهب الى اصحاب الدخل المحدود، وليس الى جيوب المضاربين الكبار.