منذ اندلاع الحرب الروسية الاوكرانية، عاد بريق الذهب الى اللمعان بقوة في كل انحاء العالم، انطلاقا من القاعدة الاقتصادية الثابتة التي تقول ان المعدن الاصفر ملاذ آمن، وكلما حصلت توترات او أزمات، يلجأ عدد من المستثمرين حول العالم، الى الخروج من الاستثمارات في الاسهم والادوات المالية الاخرى، ويتجهون الى الذهب لضمان عدم تعرضهم لتقلبات وانهيارات قد يفرضها تطور الاحداث. ومن هنا، يمكن فهم الاسباب التي أدّت الى ارتفاع اسعار الذهب بعد اندلاع الحرب، ووصولها الى ارقام قياسية، مع احتمال استمرار الارتفاع في المرحلة المقبلة.
هذا الواقع القائم في كل دول العالم، يتظهّر بشكل لافت في الدول العربية، سيما غير النفطية منها. ذلك ان مبدأ الملاذ الآمن في خلال الحروب والاضطرابات، يسري في بعض البلدان من دون الحاجة الى حروب. اذ غالباً، ما تثير الشكوك في شأن ثبات النظام، او وضعية العملة الوطنية، مخاوف المواطنين الذين يتجهون الى اقتناء الذهب كبديل مضمون للعملة الورقية.
ما جرى في مصر في الفترة الاخيرة، يعكس هذه الصورة النمطية التي تقضي بالهروب الى الذهب. وقد حاولت السلطات المصرية الحدّ من الاندفاع نحو المعدن الاصفر، من خلال فرض رسوم مرتفعة على استيراد الذهب، على امل الحفاظ على العملات الصعبة المخصصة لاستيراد المواد الاساسية. لكن النتيجة كانت أن أسعار الذهب ارتفعت في مصر بطريقة غير اعتيادية، وتجاوزت السعر العالمي، بحيث وصل سعر غرام الذهب إلى نحو 2800 جنيه، أي ما يعادل 90.5 دولارا، في حين كان السعر العالمي عند حدود 56.5 دولارا للغرام الواحد. والملفت أن الطلب على الذهب استمر مرتفعا رغم ارتفاع اسعاره بهذا الشكل غير الاعتيادي.
حيال هذا التطور، تراجعت السلطات المصرية عن قرارها، واتجهت أخيراً نحو الغاء الرسوم على استيراد الذهب، انطلاقاً من تراجع كميات الذهب التي كان يعود بها المغتربون المصريون الى بلادهم. اذ اعتبرت السلطات، ان السوق يحتاج الى تشجيع المصريين العاملين في الخارج، على استقدام مقتنياتهم الذهبية معهم، لأن جزءا من هذه المقتنيات قد يتحول لاحقا الى سيولة في السوق، بما يساعد الاقتصاد الذي يعاني كثيرا في هذه الحقبة. ورغم ان السلطات المصرية حدّدت مدة الغاء الرسوم بستة اشهر، الا ان المرجّح ان يتم تجديد هذا القرار بعد انتهاء الفترة، خصوصا اذا ما تبيّن نجاح القرار في جذب كميات اضافية من الذهب الى البلد.
ولا بد من الاشارة، إلى أن الاغراءات التي قدمتها المصارف العاملة في مصر، من خلال قرارات المصرف المركزي المصري، برفع الفوائد على الودائع، لم تنجح في اغراء المصريين للاتجاه نحو الادخار بالعملات الورقية، والحصول على عائدات فوائد مرتفعة. وفي كل الاحوال، فان نسبة الخرق المصرفي في المجتمع المصري ليست مرتفعة. بمعنى ان نسبة كبيرة من المصريين لا يتعاملون مع المصارف، ويعتمدون الادخار في المنزل، حتى لو كانت مدخراتهم بالعملة الورقية، ويستطيعون ان يستفيدوا من الفوائد في حال اودعوها المصرف. وهذا ما يشجع اكثر على اقتناء الذهب، لأن تخزينه اسهل واكثر آمانا في مواجهة اي حادث طارئ، مثل الحريق مثلا.
هذه المشهدية تنطبق ايضا على الكثير من الدول العربية، سيما غير النفطية منها. وعلى سبيل المثال ايضا، تواجه المصارف العاملة في العراق صعوبة كبيرة في اقناع المواطن العراقي بنقل مدخراته من تحت الوسادة الى صندوق المصرف. هذا السلوك يساهم بطبيعة الحال في ارتفاع الطلب على الذهب، دون اية عملة ورقية اخرى.
الى جانب النزعة الفردية لامتلاك الذهب، تتجه الحكومات، ومنها العربية، الى تغيير توازنات الاحتياطي لديها، من خلال زيادة نسبة الذهب من مجموع الاحتياطي. وهذا النهج بدأت تتبعه حكومات خليجية، تشعر بأن النظام العالمي مهتز، ولا بد من التحوّط من خلال رفع منسوب اقتناء المعدن الاصفر في خزائن المصارف المركزية.
هذه المعطيات القائمة حاليا، توحي بأن الطلب على الذهب سيستمر في الارتفاع، وان سعره قد يواصل مسار الارتفاع الذي بدأه منذ اندلاع الحرب الروسية الاوكرانية. وبالتالي، فان الدول العربية التي تمتلك مخزونا جيدا من الذهب ستحقق عائدات من فارق الاسعار، وفي مقدمها السعودية التي تمتلك الاحتياطي الذهبي الاكبر في المنطقة. كذلك لبنان الذي يأتي في المرتبة الثالثة من حيث حجم الاحتياطي الذهبي لديه. وقد تجاوزت قيمة هذا الاحتياطي الـ18 مليار دولار، في حين ان قيمته قبل ارتفاع الاسعار كانت تتراوح بين 12 و13 مليار دولار.